عمرو حجازي يكتب : قانون الإيجار القديم؛ قنبلة موقوتة أم عدالة غائبة؟
بقلم: مهندس عمرو حجازي
يثير ملف قانون الإيجار القديم في مصر جدلاً واسعاً ومتجدداً، يقف فيه البرلمان على مفترق طرق حاسم، فبينما يؤكد خبراء دستوريون ومسؤولون حكوميون على حتمية التغيير امتثالاً لأحكام قضائية وضرورات اقتصادية واجتماعية، ترتفع أصوات نيابية معارضة، متخوفة من "قنبلة اجتماعية" قد تنفجر. هذا المقال يسلط الضوء على أبعاد هذا الصراع التشريعي، وتداعياته المحتملة على ملايين المصريين، مستعرضاً الحجج المتباينة في قضية طال أمدها وكبدت أطرافها خسائر فادحة.
تتصاعد وتيرة النقاش حول مستقبل قانون الإيجار القديم، مع تأكيدات متتالية من شخصيات قانونية وحكومية بارزة بضرورة التدخل التشريعي العاجل، أوضح الدكتور السيد عيد نايل، عميد كلية الحقوق الأسبق بجامعة عين شمس، أن حكم المحكمة الدستورية العليا لعام 2024 بشأن تحريك الأجرة لا يقف حائلاً أمام البرلمان لإصدار تشريع شامل يعالج كافة جوانب العلاقة الإيجارية، بما فيها إنهاؤها، وشدد نايل على مبدأ أن "الأجرة التافهة تبطل عقد الإيجار"، واصفاً قانون الإيجار القديم بأنه "استثنائي" تجاوز مداه الزمني، منتقداً في الوقت ذاته توحيد الحد الأدنى للإيجار بين المدن والقرى رغم التفاوت الكبير في القيم السوقية.
على الجانب الحكومي، لم يكن تحذير المستشار محمود فوزي، وزير شؤون المجالس النيابية والتواصل السياسي، أقل حدة، فقد أكد على إلزامية إصدار قانون ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر، محذراً من أنه في حال تقاعس البرلمان عن إصدار التعديلات اللازمة، فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى "فسخ عقود الإيجار القديمة تلقائياً"، ليصبح حكم المحكمة الدستورية نافذاً بكامل تبعاته.
رغم هذه التحذيرات والتوضيحات، يستمر النائب مصطفى بكري في طليعة المعارضين لمشروع الحكومة، رافضاً فكرة إنهاء العلاقة الإيجارية بنهاية الفترة الانتقالية المقترحة، معتبراً إياها "إخلاءً قسرياً" و"قنبلة" تهدد السلم المجتمعي، ويثير هذا الموقف تساؤلات حول دفاع نائب تشريعي عن وضع وصفته المحكمة الدستورية العليا مراراً وتكراراً «عبر "36" حكماً» بأنه يتضمن نصوصاً غير دستورية، داعيةً المشرع للتدخل لتغير هذا القانون الذي ألحق خسائر بالمالكين والدولة، بل وبأرواح المستأجرين في حوادث انهيار العقارات.
فبينما الأصل في العقود كافة أن تكون مؤقتة بأجل معلوم، ويُستثنى من ذلك عقد الزواج الذي لا ينقضي إلا بالوفاة، أو بالطلاق في بعض الأحوال، تمتد المفارقة لتشمل نواباً آخرين، من بينهم عبد المنعم إمام، وعمرو درويش (أمين سر لجنة الإدارة المحلية)، وضياء الدين داوود. هؤلاء النواب يبدون حرصاً لافتاً على تحويل عقد الإيجار القديم إلى ما يشبه العقد المؤبد، بل وجعله يتجاوز في استمراريته حتى عقد الزواج نفسه، لينتهي بوفاة المستأجر وكامل أسرته. وفي سعيهم هذا، يتجاهلون عن عمد أو عن غير عمد، حقيقة تدهور عمر هذه العقارات، وما يتبعها من مسلسل انهيارات مأساوي، غالباً ما يكون ضحاياه من فقراء المستأجرين أنفسهم.
وفيما يتعلق بالقيم الإيجارية الهزيلة، التي تكاد تكون معدومة في عقود الإيجار القديم السكنية، جاءت تصريحات النائب إيهاب الطماوي لتزيد المشهد تعقيداً. فقد وصف مقترح مضاعفة هذه القيم "20" ضعفاً (والتي قد تصل بحد أقصى إلى 1000 جنيه في المدن و500 جنيه في الريف)، بالإضافة إلى فترة انتقالية مدتها خمس سنوات لتحرير العقود، بأنها "الأكثر إثارة لغضب الشارع". هذا التصريح يطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمثل الشارع المستأجرين فقط؟ وحتى لو كانوا أغلبية، فهل يجوز للأغلبية مصادرة حقوق الأقلية وانتهابها، علماً بأن طول أمد القانون والإرث المتتالي قد جعل أعداد المالكين المتضررين تفوق أعداد المستأجرين في كثير من الحالات؟
الأغرب من ذلك هو مطالبة بعض النواب بتأجيل مناقشة القانون إلى دور الانعقاد القادم، متجاهلين على ما يبدو التحذيرات الصريحة من الدكتور نايل والمستشار فوزي بشأن العواقب القانونية لهذا التأخير، ورغم إدراك حساسية التوقيت الراهن مع اقتراب نهاية الدورة التشريعية وانتخابات نيابية مقبلة، لا يمكن أن يكون ذلك مبرراً لتجاهل حقوق دستورية ثابتة أو الدفاع عن أوضاع غير إنسانية، ومخالفة للدستور، إذ أنها تنتهك حق السكن المصان بنص الدستور، وبينما يتمتع أبناء المستأجرين بإرث عقاري لا يخصهم، يبحث أبناء المالكين عن مأوى بأسعار السوق الحالية، بعد أن تضخمت ثروات العديد من المستأجرين الذين يسكنون مقابل جنيهات زهيدة، فيما تم إفقار المالكين الذين جُمدت ثرواتهم لعقود.
إن التلويح "بالسلم المجتمعي" من قبل بعض النواب كلما طُرح مشروع لتعديل القانون يثير الدهشة، فكما أن المستأجرين، بما فيهم من أرامل ومطلقات وأيتام وأرباب معاشات، هم جزء من النسيج المصري، كذلك المالكين، الذين يضمون نفس هذه الفئات، وقد ضحوا بعوائد ثرواتهم لعقود من أجل الوطن والسلم المجتمعي، والسؤال: ألم تكفِ سبعون عاماً من القهر المادي والمعنوي لفئة المالكين؟ الذين لم يكن لهم ذنب سوى أنهم استثمروا أموالهم في العقار؟
يبقى السؤال معلقاً: هل سيتحمل البرلمان مسؤوليته الدستورية والتاريخية لإنهاء هذا الملف، أم ستستمر دوامة التأجيل والدفاع عن أوضاع ثبت عدم عدالتها دستورياً وإنسانياً؟ الأيام القادمة كفيلة بالإجابة.